فتاةٌ لم يكتمل شهرها التّاسع بعد تبكي صارخة مُناديةً طعاماً تقدّمه لها والدتها، فلا تَجِد. وأخاها الذي يركض من بوّابة المدرسة مسرعاً ليحضن والدته ويخبرها بقصصه وحيرته التي يتواجه معها، للأسف يُصدَم عندما لا يراها. هذه الأُمّ القاسية
تركتهما دون غذاء، تركتهما دون قلبٍ يغذّيهما وصدرٍ يريحهما، تركتهما فقط وذهبتْ.
رَجُلٌ يقف مراقباً أبواب المدارس وأطفالاً يسيرون في الشّوارع، يراقب ويقتنص الفُرَص كي يُغويهم ويُشبع جوعاً مَرَضيّاً يفتك بجسده.
فتاةٌ صغيرةٌ لم تتزيّن بعد بسنينها الأربعة عشر، قرّرت أن تدفن حياتها ومُتعة براءتها لتختبر ما تقدِّمه مُتعة الإعلانات، لينتهي بها الأمر أن تحمل في أحشائها طفلاً صغيراً مع أنّها لا تزال هي الطّفلة.
شبابٌ وشابّاتٌ فقدوا في طفولتهم أعمق احتياجاتهم، فوجدوا أنْفُسهم في أحضان من مثلِهم، ووجدوا الرّفض ممَّن حولهم (المِثليّين).
فتياتٌ يتطاير المال من حقائبهنّ، تستيقظنَ على أصوات أحدث الموبايلات، تقضينَ ساعات يومهنّ وهنّ تتفقّدنَ أفخم المحلاّت، تُنفِقنَ وتُنفَقنَ ليس لاحتياج ولكن لمُجرَّد الإنفاق.
صُوَرٌ وصُوَرٌ لا تنتهي وجميعها لها مصدرٌ واحدٌ وسؤالٌ واحدٌ "من أنا؟". إنّه السّؤال الذي حيّر الكَون وجعل الموازين تميل وتنحرف. إنّه السّؤال الذي جعل جميع تلك المآسي تنتقل من الرّوايات إلى الواقع.
"من أنا؟". هل من أحد يجيب سؤالي ويهدِّئ عاصفة الحيرة التي تزعزعني؟!!.
هل أنا حيوان متطوِّر وله عقل؟!. إذاً من خُلِق بمرضٍ لا يَسمَح لعقله بالتّطوُّر، ليس إنساناً!.
هل أنا جسدٌ وملامح وأعضاء؟!. إذاً من تشوَّه وفقَدَ أعضاءه، ليس إنساناً!.
هل أنا مهنة أم حرف أم عمل؟!. إذاً من لا يعمل ومن لم تعطِه الحياة فرصة التعلُّم، ليس إنساناً!.
هل أنا أبٌ أو أُمٌّ، أَمْ هو دَورٌ ألبَسهُ؟!. إذاً من لم يُكرَم بتلك النّعمة، ليس إنساناً!.
هل أنا تاريخٌ رَسم الحاضر والمستقبل؟!.إذاً من فقَدَ ذاكرته ونَسِيَ تاريخه، ليس إنساناً!.
من أنا؟!. عندما أفكّر في الأشياء من حولي أَجِدُ أنّ كلّ شيءٍ ممكن أن ينتهي ويزول. فهل أبقى أنا أم أزول بزواله؟.
وأنا في خِضَمِّ الصِّراع وجدتُ من يُخرجني من دائرتي المُغلَقة هذه، تذكّرتُ أنّ هناك من سأل قبلي سؤالاً مشابهاً.
هناك من سأل خالق الكَون عمّن هو؟، فكان جوابه: "أنا هو الذي أنا". إنّه لجواب غريب جدّاً.
لحظاتٌ جعلتني أفهم ما بحثتُ عنه سنين. "أنا هو الذي أنا" هذا ما قاله عن نَفْسه. أمّا ما قاله عنّي فهو"أنّني مخلوق على صورته".
إذاً عندما أبحثُ عن جوابٍ لسؤالٍ حرق العيون وكسر القلوب، سيكون الجواب أنا مخلوقٌ على صورته لذلك "أنا هو أنا" فقط.
أنا موجود لأنّني موجود. من خلقني أوجدني ولا شيء آخَر أوجد فيّ الوجود ولا شيء يسلب منّي ذاك الوجود لأنّني موجود، فحتّى لو حاولتُ الهروب وأوهمتُ النّاس أنّني انتهيتُ سأبقى موجوداً.
وجودي أستمدُّه من وجوده وكلّ ما فيّ أستمدُّه منه هو، فأنا جميل لأنّه هو جميل، وهو الذي يضع المعايير والقِيَم لذلك مهما كان شكلي ولوني فأنا جميل.
أنا مُبدِع لأنّه هو مُبدِع ولستُ بحاجةٍ لبراءةِ اختراع كي أصبح مبدعاً لأنّني في الحقيقة مُبدِع. أنا سعيدٌ وراضٍ بكلّ ما وضعه فيّ، ولكن يا صديقي أجمل ما وضعه فيّ وأجمل ما ميّزني به أنّني "مخلوقٌ محدود". إنّها أبدع الصّفات التي وضعها فيّ، فمحدوديّتي تجعلني أشعر بالأمان لأنّه هو من يحتويني. محدوديّتي تجعلني أقفز فوق ما يدعونه الفشل لأنّني مُدرِك أنّني محدود. محدوديّتي تجعلني أنظر إلى الوراء وإلى الأمام ولا أتخطّى نهاية الطّريق. محدوديّتي تجعلني أعيش مع من حولي لأنّني محدود وبحاجة للمحدود الذي مثلي وإلى اللامحدود الذي خلقني.
لذلك، "أنا هو أنا" وعندما أنسى من أنا سأكون قد نسيته هو.
قال النّبي داود في مزموره المئة والتّاسع والثّلاثون: "2. أَنْتَ عَرَفْتَ قُعُودِي وَنُهُوضِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ، 3. أَنْتَ تَقَصَّيْتَ مَسْلَكِي وَمَرْقَدِي، وَتَعْرِفُ كُلَّ طُرُقِي، 4. عَرَفْتَ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهَا لِسَانِي، 5. لَقَدْ طَوَّقْتَنِي (بِعِلْمِكَ) مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ أَمَامٍ وَبَسَطْتَ يَدَكَ فَوْقِي، 6. مَا أَعْجَبَ هَذَا الْعِلْمَ الْفَائِقَ، إِنَّهُ أَسْمَى مِنْ أَنْ أُدْرِكَهُ".
صديقي عندما تتُوه في هذه البرّيّة وتَفقِد نَفْسك بين رمال الحياة، إذهب إليه لأنّه هو هو ولن يتغيّر، وعندئذٍ ستعرف وستَجد "الأنا" التي تبحث عنها.